حسين شبكشي: «احترام» الحضارات!
في ظل الحديث المتواصل (والمطلوب جدا) عن حوار أتباع الأديان وحوار الثقافات بين الشعوب والأمم، تبقى الفكرة قائمة ويغيب ذكر الأسماء التي أسهمت بقوة وجدارة وكفاءة ومصداقية في هذا المجال الحيوي. في هذه الأيام تحديدا تحل ذكرى رحيل أحد أهم الشخصيات التي «فهمت» مغزى حوار الأديان والثقافات وانتقلت به إلى فضاء أرحب وأعظم وأغزر وهو «احترام» الأديان والثقافات لأن الحوار في حد ذاته لا يمكن أن يكون هدفا ولكنه وسيلة لتحقيق غاية عظيمة وسامية. هذا ما استطاعت عمله الراحلة آن ماري شيمل المستشرقة الألمانية الفذة التي وهبت حياتها بشكل عملي ومبهر للتعمق في الثقافة والفكر الإسلامي بشكل ساحر وأخاذ. هذه السيدة العظيمة التي ولدت في رحم ألمانيا النازية المفتونة والمأخوذة بكل شيء ألماني وآري، ومع ذلك وجهت بوصلتها شرقا نحو الإسلام والمسلمين، كان ذلك بداية الدلالات على مكانة هذه المرأة المستقبلية وكيف أن حياتها سوف تكون عامرة بالأمجاد العلمية والغزارة الأدبية والحس الراقي الإنساني والوجدان الروحاني الإيماني العميق جدا والقادر على قبول كل ملة ودين برحابة وسعة. أبحرت في علوم الإسلام والمسلمين كباحثة محبة وكأكاديمية علم، درست في جامعة أنقرة عام 1954 وكان ذلك بمثابة الاطلاع على عالم عظيم من العلم الإسلامي فالتقت بعلماء مسلمين ومربين روحانيين تركوا في نفسها الأثر الكبير الذي انعكس بشكل مدهش على كتاباتها وأفكارها. وتعمقت في الكتابة بشكل غزير في فكر وحياة المعلم التركي المعروف جلال الرومي. كتبت آن ماري شيمل خلال مشوار حياتها العامر والحافل ما يقارب الـ150 كتابا وما يزيد على 500 مقالة، وحاضرت وشاركت في ندوات وورش عمل كثيرة خلال حياتها التي تخطت فيها 80 عاما من العمر المعطاء. قابلت الراحلة في إحدى المناسبات التي أتت فيها إلى المنطقة (جاءت إلى البحرين في محاضرة عظيمة بدار القرآن، كما حاضرت في إحدى الندوات الدورية التي يقيمها الأمير تركي بن طلال دوريا في شهر رمضان). وأكثر كتبها التي أبهرتني وأثرت فيّ شخصيا هو كتاب «ومحمد هو نبيه» الذي تقدم فيه علاقة المسلمين بنبي الله صلى الله عليه وسلم وسر تعلقهم ومحبتهم له بأسلوب جميل وآخاذ ومميز جدا.. ويبدو أن إقامة آن ماري شيمل بشكل طويل ومتواصل في تركيا جعلتها قادرة على بناء جسور العلم والثقة والقرب والتواصل بين الشرق والغرب وبين الثقافات والأديان وذلك تأثرا بحكم الموقع الجغرافي العبقري لتركيا نفسها التي تقع بين شرق وغرب وآسيا وأوروبا مما جعلها مصهرا طبيعيا لكل الحضارات والثقافات والأعراق. طبعا بقي دوما موضوع «إسلام» آن ماري شيمل مثار جدل هائل وكبير، فالغربيون بصورة عريضة كانوا يعترضون على طروحاتها ويعتبرونها اعتذارية عن المسلمين ومبررة لتصرفاتهم وأنها تفعل ذلك بحكم أنها «أسلمت» وأصبحت «منهم» ولكنها لم تعلن يوما إسلامها بشكل صريح ومع ذلك لم ترحم من ألسنة معاديها وخصومها وبالتالي لم يكن مشوارها مليئا بالورود ولا خاليا من الصعاب، أما المسلمون فاعتبروها دوما من المستشرقين ومن المنصفين من أهل الكتاب، ومع ذلك لم تسلم من نقد المتطرفين المتنطعين منهم الذين اعتبروا طروحاتها عن التصوف والإحسان في الدين الإسلامي مسألة «مليئة بالجهل والبدعة والسخف» بحسب ما ورد على لسان أحد منتقديها. وبعد تركيا كان لباكستان مكانة خاصة لدى هذه المرأة العظيمة وتأثرت تأثرا كبيرا بما كتبه المفكر الكبير محمد إقبال وترجمت له أعمالا مهمة أهمها كتابه «الخلود» إلى اللغة الألمانية، والكتاب هو قراءة عصرية جديدة ومميزة وفريدة للإسراء والمعراج، ولقي الكتاب مكانة عظيمة في قلوب الباكستانيين وأطلق اسمها على أحد أهم شوارع مدينة لاهور. آن ماري شيمل تركت كما عظيما من الإرث الإنساني والفكري الذي يبني جسورا من الثقة ويحقق بالواقعية فكرة «احترام» الأديان والثقافات من الممكن أن تستفيد من الشعوب والأمم والحضارات، ولعل أول من يمكنه الاستفادة من كل ذلك هم بعض المسلمين أنفسهم الذين هم بأمس الحاجة لذلك اليوم. hussein@asharqalawsat.com |
No comments:
Post a Comment