زين العابدين الركابي |
حوار لم ينشر.. مع الأمير نايف
للأمير نايف بن عبد العزيز الذي افتقدته السعودية - شعبا وقيادة - في الأيام الماضية خصائص ومميزات كثيرة، منها على سبيل المثال، أنه محاور ممتاز، رفيع المستوى، خصيب الفكر والثقافة والمعلومات، وأنه من ثم، يجيد «فن الإصغاء»، على الرغم مما يملكه من غنى في المعلومات والوقائع، ومن رؤية واضحة للواقع الوطني والإقليمي والعالمي. وفن الإصغاء حكمة منيرة تترجم حقيقة أن 70 في المائة من معارف الإنسان تتأتى عن طريق الإصغاء الجيد.. نعم. يصغي بانتباه - رحمه الله - ثم يأخذ فرصته فيتدفق حديثه تدفقا يتسم بسمات ثلاث:
أ - الصراحة التامة إلى درجة الصدمة
ب - نقد الثغرات فيما قيل
ج - الدقة في التعبير
وهذه نماذج من الحوار معه:
1 - عن تجربة السعودية في اعتماد الإسلام منهجا لحياتها، وفي تساؤل لا يخلو من نبرة عاتبة قال: لماذا يضيق البعض بتجربتنا الإسلامية؟ وما السبب؟ إن هذا الوجود يسعنا ويسع غيرنا من الشعوب والدول، ويتسع بالتالي لتجارب كل شعب ودولة.
إذا كانوا يعترضون أو يضيقون باختيارنا للإسلام.. فهذا ليس لهم، ليس من شأنهم، ذلك أننا نتلقى مبادئنا وتشريعاتنا من مصدر معصوم لا يخطئ، وهو الكتاب والسنة، ولا نقبل زعم زاعم يدعي أنه أعلم من الله ورسوله بما يصلح للناس ويصلحهم.
أما من له ملاحظات عن «تطبيقاتنا»، فنحن مستعدون لتلقي هذه الملاحظات؛ للاحتفاء بما فيها من صواب ونفع، ولنقد ما هو خاطئ منها.
وهذا كلام نفيس جدا، خليق بالتعليق والمناقشة:
أولا: لأنه موضوع يتعلق بالإسلام، وبـ«تطبيقاته»، وهما قضيتان مختلفتان جدا. فالإسلام هو «قال الله وقال رسوله»، وهو قول معصوم من الخطأ.. أما التطبيق فهو «اجتهاد بشري» في زمان ما، في مكان ما.. والاجتهاد البشري قد يصيب، وقد يخطئ. فإذا توافر الإخلاص، وحسن القصد، فإن صاحب الاجتهاد مثاب في الحالين: حال الإصابة، وحال الخطأ: بنص الحديث النبوي الصحيح: «إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر».
ثانيا: أن هناك «خلطا متعمدا» بين الإسلام وتطبيقاته، في التاريخ والحاضر. ولأن هناك بالتالي من يتخذ الخلط «مطية» لنقد الإسلام ذاته، ونقض شرائعه: بجهالة أو بلؤم.
لهذه الأسباب ركز الأمير نايف على ضرورة التفريق بين الإسلام ذاته - كتابا وسنة - وبين تطبيقاته التي هي غير معصومة - بداهة - من القصور والتقصير، وغير معصومة بالتالي من النقد المشروط بالعلم والإخلاص والعدالة والنزاهة، المبرأ من الهوى، ومن التحامل على الإسلام ذاته.
2 - في موضوع استقلال القرار والموقف قال: أنا لا أخاف إلا من الله تعالى.. ثم من ذنوبي.. ثم استتبع يقول: ذات مساء اتصل بي مسؤول أمني مختص في البلاد فقال لي: إن الدولة الفلانية علمت أن شخصية معينة مطلوبة لديها، وأن هذه الشخصية ستمر بمطار جدة هذا المساء، ولذلك ترغب هذه الدولة في احتجاز تلك الشخصية في المطار وتسليمها - من ثم - لتلك الدولة.. ونحن ننتظر القرار منكم.. فقلت له: قولوا لمن اتصل بكم، إن السعودية لا تقوم بأعمال قرصنة أولا: لأنها دولة لها قيمها التي لا تسمح بمثل هذه الأعمال. ثانيا: لأن السعودية دولة مسؤولة تحترم المواثيق الدولية ومنها: الحفاظ على سلامة الركاب المدنيين في أي وسيلة مواصلات كانت.. وقراري هو: عدم الاستجابة لهذا المطلب الغريب حتى وإن كان الشخص المطلوب غير صديق، بل معاديا لنا.
3 - في حديث عن الأوضاع الاجتماعية والأمنية سأل: هل كل ما في البلاد من مشكلات تعرض على القضاء، أو تجد طريقها إلى الإعلام والعلانية؟ ثم أجاب (وكان السؤال مجرد مدخل): هذه المشكلات لا يظهر منها إلا القليل.. أما معظمها فيعالج بواحد من الأساليب الثلاثة التالية:
أ - الإقناع
ب - المصالحة والتوفيق
ج - الستر (ولا سيما فيما يتعلق بحرمة العائلات وشرف الأفراد).
ثم استطرد يقول: إن الناس يتعرضون لمؤثرات شتى، وكثير منهم ينزلق أو يكبو دون نية سيئة أو إرادة شريرة.. وفي هذه الأحوال ينبغي استعمال الرفق معهم حتى يمكنهم أن ينهضوا من عثراتهم.
وهذه نظرة إسلامية عميقة يتسنى تأصيلها بما يلي:
أولا: إن من طبيعة الإنسان أن يخطئ وفي إمكانه أن يستقيم، فهو ليس ملاكا معصوما من الخطأ، وغير قادر عليه. وليس شيطانا مريدا يفعل الشر بإطلاق. ولحكمة عليا أخطأ آدم عليه السلام لأنه لا يستطيع أن يكون معصوما.
ثانيا: إن الإنسان حين يخطئ لا يجوز أن يضاف إلى خطئه: تيئيسه من النهوض والتقدم والتطهر والسمو. ولذا شرعت التوبة.. نعم شرعت التوبة ليس للذين يذنبون فحسب، بل للذين «يسرفون» على أنفسهم في الآثام والذنوب: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم».
ثالثا: إن «الرفق» هو منهج الإسلام في معالجة مسالك الذين يكبون ويتعثرون (وهؤلاء مختلفون عن المجاهرين ومعتادي الجرائم).. ولقد قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه. وما نزع الرفق من شيء إلا شانه».
4 - أين الأمير نايف الآن؟ في مقبرة العدل في مكة المكرمة، في قبر عادي لا يميزه شيء عن القبور التي حوله. وكان - رحمه الله - قد حكى الحكاية التالية المعبرة.. قال: زار المملكة العربية السعودية أحد زعماء الدول، وكنت الوزير المرافق معه، وطلب هذا الزعيم أن يزور قبر الملك عبد العزيز - رحمه الله - فاستجبنا لطلبه وذهبنا إلى المقبرة التي تضم قبر الملك عبد العزيز.. ولحظت أنه كلما اقتربنا من المقبرة أخذ يتلفت وكأنه يبحث عن شيء ما.
دخلنا المقبرة فازداد تلفته، وعندما وقفنا عند قبر الملك عبد العزيز قلت له: هذا هو قبر الملك عبد العزيز فلم يكد يصدق، وقال: هذا هو قبر ذلك المصلح العظيم المؤسس؟
قلت: نعم، ثم سألته: لماذا كنت تكثر التلفت ونحن مقبلون على المقبرة؟ قال: كنت أتخيل ضريحا فخما للملك عبد العزيز يليق بمقامه ومكانته.
قلت: إن هذه هي الطريقة الشرعية في دفن الموتى ونوع مقابرهم في بلادنا.
فانصرف متعجبا، وما كاد يصدق أن ملكا عظيما كعبد العزيز آل سعود تنتهي حياته إلى قبر عادي كالذي رآه!
أ - الصراحة التامة إلى درجة الصدمة
ب - نقد الثغرات فيما قيل
ج - الدقة في التعبير
وهذه نماذج من الحوار معه:
1 - عن تجربة السعودية في اعتماد الإسلام منهجا لحياتها، وفي تساؤل لا يخلو من نبرة عاتبة قال: لماذا يضيق البعض بتجربتنا الإسلامية؟ وما السبب؟ إن هذا الوجود يسعنا ويسع غيرنا من الشعوب والدول، ويتسع بالتالي لتجارب كل شعب ودولة.
إذا كانوا يعترضون أو يضيقون باختيارنا للإسلام.. فهذا ليس لهم، ليس من شأنهم، ذلك أننا نتلقى مبادئنا وتشريعاتنا من مصدر معصوم لا يخطئ، وهو الكتاب والسنة، ولا نقبل زعم زاعم يدعي أنه أعلم من الله ورسوله بما يصلح للناس ويصلحهم.
أما من له ملاحظات عن «تطبيقاتنا»، فنحن مستعدون لتلقي هذه الملاحظات؛ للاحتفاء بما فيها من صواب ونفع، ولنقد ما هو خاطئ منها.
وهذا كلام نفيس جدا، خليق بالتعليق والمناقشة:
أولا: لأنه موضوع يتعلق بالإسلام، وبـ«تطبيقاته»، وهما قضيتان مختلفتان جدا. فالإسلام هو «قال الله وقال رسوله»، وهو قول معصوم من الخطأ.. أما التطبيق فهو «اجتهاد بشري» في زمان ما، في مكان ما.. والاجتهاد البشري قد يصيب، وقد يخطئ. فإذا توافر الإخلاص، وحسن القصد، فإن صاحب الاجتهاد مثاب في الحالين: حال الإصابة، وحال الخطأ: بنص الحديث النبوي الصحيح: «إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر».
ثانيا: أن هناك «خلطا متعمدا» بين الإسلام وتطبيقاته، في التاريخ والحاضر. ولأن هناك بالتالي من يتخذ الخلط «مطية» لنقد الإسلام ذاته، ونقض شرائعه: بجهالة أو بلؤم.
لهذه الأسباب ركز الأمير نايف على ضرورة التفريق بين الإسلام ذاته - كتابا وسنة - وبين تطبيقاته التي هي غير معصومة - بداهة - من القصور والتقصير، وغير معصومة بالتالي من النقد المشروط بالعلم والإخلاص والعدالة والنزاهة، المبرأ من الهوى، ومن التحامل على الإسلام ذاته.
2 - في موضوع استقلال القرار والموقف قال: أنا لا أخاف إلا من الله تعالى.. ثم من ذنوبي.. ثم استتبع يقول: ذات مساء اتصل بي مسؤول أمني مختص في البلاد فقال لي: إن الدولة الفلانية علمت أن شخصية معينة مطلوبة لديها، وأن هذه الشخصية ستمر بمطار جدة هذا المساء، ولذلك ترغب هذه الدولة في احتجاز تلك الشخصية في المطار وتسليمها - من ثم - لتلك الدولة.. ونحن ننتظر القرار منكم.. فقلت له: قولوا لمن اتصل بكم، إن السعودية لا تقوم بأعمال قرصنة أولا: لأنها دولة لها قيمها التي لا تسمح بمثل هذه الأعمال. ثانيا: لأن السعودية دولة مسؤولة تحترم المواثيق الدولية ومنها: الحفاظ على سلامة الركاب المدنيين في أي وسيلة مواصلات كانت.. وقراري هو: عدم الاستجابة لهذا المطلب الغريب حتى وإن كان الشخص المطلوب غير صديق، بل معاديا لنا.
3 - في حديث عن الأوضاع الاجتماعية والأمنية سأل: هل كل ما في البلاد من مشكلات تعرض على القضاء، أو تجد طريقها إلى الإعلام والعلانية؟ ثم أجاب (وكان السؤال مجرد مدخل): هذه المشكلات لا يظهر منها إلا القليل.. أما معظمها فيعالج بواحد من الأساليب الثلاثة التالية:
أ - الإقناع
ب - المصالحة والتوفيق
ج - الستر (ولا سيما فيما يتعلق بحرمة العائلات وشرف الأفراد).
ثم استطرد يقول: إن الناس يتعرضون لمؤثرات شتى، وكثير منهم ينزلق أو يكبو دون نية سيئة أو إرادة شريرة.. وفي هذه الأحوال ينبغي استعمال الرفق معهم حتى يمكنهم أن ينهضوا من عثراتهم.
وهذه نظرة إسلامية عميقة يتسنى تأصيلها بما يلي:
أولا: إن من طبيعة الإنسان أن يخطئ وفي إمكانه أن يستقيم، فهو ليس ملاكا معصوما من الخطأ، وغير قادر عليه. وليس شيطانا مريدا يفعل الشر بإطلاق. ولحكمة عليا أخطأ آدم عليه السلام لأنه لا يستطيع أن يكون معصوما.
ثانيا: إن الإنسان حين يخطئ لا يجوز أن يضاف إلى خطئه: تيئيسه من النهوض والتقدم والتطهر والسمو. ولذا شرعت التوبة.. نعم شرعت التوبة ليس للذين يذنبون فحسب، بل للذين «يسرفون» على أنفسهم في الآثام والذنوب: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم».
ثالثا: إن «الرفق» هو منهج الإسلام في معالجة مسالك الذين يكبون ويتعثرون (وهؤلاء مختلفون عن المجاهرين ومعتادي الجرائم).. ولقد قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه. وما نزع الرفق من شيء إلا شانه».
4 - أين الأمير نايف الآن؟ في مقبرة العدل في مكة المكرمة، في قبر عادي لا يميزه شيء عن القبور التي حوله. وكان - رحمه الله - قد حكى الحكاية التالية المعبرة.. قال: زار المملكة العربية السعودية أحد زعماء الدول، وكنت الوزير المرافق معه، وطلب هذا الزعيم أن يزور قبر الملك عبد العزيز - رحمه الله - فاستجبنا لطلبه وذهبنا إلى المقبرة التي تضم قبر الملك عبد العزيز.. ولحظت أنه كلما اقتربنا من المقبرة أخذ يتلفت وكأنه يبحث عن شيء ما.
دخلنا المقبرة فازداد تلفته، وعندما وقفنا عند قبر الملك عبد العزيز قلت له: هذا هو قبر الملك عبد العزيز فلم يكد يصدق، وقال: هذا هو قبر ذلك المصلح العظيم المؤسس؟
قلت: نعم، ثم سألته: لماذا كنت تكثر التلفت ونحن مقبلون على المقبرة؟ قال: كنت أتخيل ضريحا فخما للملك عبد العزيز يليق بمقامه ومكانته.
قلت: إن هذه هي الطريقة الشرعية في دفن الموتى ونوع مقابرهم في بلادنا.
فانصرف متعجبا، وما كاد يصدق أن ملكا عظيما كعبد العزيز آل سعود تنتهي حياته إلى قبر عادي كالذي رآه!
No comments:
Post a Comment